نتحدث اليوم عن قصة عائشة التيمورية وابنتها توحيدة.
لطالما قيل إن الرثاء أصدق الشعر، وإنه مدحٌ تأخر قوله.
وهنا كانت عائشة، التي لُقبت "نابغة مصر”في زمنها، كتبت رثاءً لابنتها من أقتل ما قرأت، وأعمق ما خُط من وجع.
القصة بدأت حين تزوجت توحيدة، زهرة حياة عائشة، وأمل قلبها الوحيد.
لكن بعد شهر واحد فقط من زواجها، أصيبت توحيدة بمرض مفاجئ وغير معروف، حير الأطباء، وتفاقم بسرعة مذهلة.
لم يتمكن أحد من إنقاذها، ورحلت بين يدي أمها، مخلفة جرحًا لا يندمل.
بعد فقدانها لابنتها الوحيدة، انكسر قلب عائشة، ودخلت في عزلة دامت سبع سنوات.
كان الحزن فيها مطبقًا خانقًا، فحبست نفسها في غرفتها، وامتنعت عن رؤية الناس، وامتلأ بيتها بصمت موجع لا يقطعه إلا صوت بكائها وأنين قلبها.
ورغم ذلك، لم يذهب ذلك الحزن سُدى
فمن بين الدموع وحرقة الفقد، كتبت عائشة أصدق شعرها، وأجمل مراثيها.
قال أديب الشام علي الطنطاوي في قصيدتِها:لا أعرفُ في الشعر العربي أحدّ منها حِسا، ولا أظهرَ عاطفة، ولا أبلغَ في إثارةِ الأسى، وهي في هذا -لا في جُودةِ السبكِ وروعةِ البيانِ- تفوقُ ما قالتِ الخنساءُ في أخيها، وما قال ابن الرومي في ابنِه، وتفوق قصيدةَ التهامي المشهورة في ولدِه
المرثية:
اِن سالَ مِن غَرب العُيونِ بُحور
فَالدَهرُ باغ وَالزَمان غَدور
قولُها: "فالدهر باغٍ والزمان غدور" فيه محظورٌ شرعي، لا يجوزُ.
فَلِكُلِّ عَين حَق مدرار الدِما
وَلكل قَلب لَوعَة وَثُبور
سَتر السنا وَتحجبت شَمسُ الضُحى
وَتَغيبت بَعد الشُروق بدور
وَمَضى الَّذي أَهوى وَجرعني الاِسا
وَغَدَت بِقَلبي جذوة وَسَعير
يا لَيتَهُ لِما نَوى عهد النَوى
وافى العُيون مِنَ الظَلام نَذير
ناهيكَ ما فَعَلت بِماء حَشاشَتي
نار لها بَينَ الضُلوعِ زَفير
لَوبث حزني في الوَرى لَم يَلتَفِت
لِمُصاب قيس وَالمُصاب كَثير
كيف بدا مرضُ ابنتها في رمضان، جاءوا بالطبيب كتب لها الدواءَ وبشرها بالشفاء:
طافَت بِشَهر الصَومِ كاساتِ الرَدى
سِحرا وَأَكوابُ الدُموعِ تَدور
فَتَناوَلَت مِنها اِبنَتي فَتَغَيَّرَت
وَجناتُ خد شانِها التَغيير
فَذَوَت أَزاهيرُ الحَياةِ بِرَوضِها
وَاِنقَدَّ مِنها مائِس وَنَضير
لَبِسَت ثِيابَ السَقمِ في صغر وَقَد
ذاقَت شَرابَ المَوتِ وَهُوَ مَرير
جاءَ الطَبيبُ ضَحى وَبشر بِالشَفا
اِنَّ الطَبيبَ بِطِبِّهِ مَغرور
وَصف التَجرع وَهُوَ يَزعُم إِنَّهُ
بِالبِرء مِن كُل السِقامِ بَشير
فَتَنَفَسَّتُ لِلحُزنِ قائِلَة لَهُ
عَجِّل بِبِرئي حَيثُ أَنتَ خَبير
وَاِحمِ شَبابي اِن والِدَتي غَدَت
ثَكلى يَثير لَها الجَوى وَتَشير
وَاِرأَف بِعَين حَرمت طيب الكَرى
تَشكو السُهاد وَفي الجُفونِ فُتور
هنا عندما ياست توحيده من الشفاء وخطبت امها:
لِما رَأَت يَأسَ الطَبيب وَعَجزِهِ
قالَت وَدَمع المُقلَتَين غَزير
أَماه قَد كل الطَبيب وَفاتَني
مِمّا أؤمل في الحَياةِ نَصير
لَو جاءَ عراف اليَمامَةِ يَبتَغي
برئى لِرد الطَرف وَهُوَ حَسير
يا رَوعَ روحي حلها نَزع الضَنا
عَمّا قَليل وَرقها سَتَطير
أَماه قَد عَز اللُقا وَفي غَد
سَتَرينَ نَعشى كَالعَروسِ يَسير
وَسَيَنتَهي المَسعى اِلى اللَحدِ الَّذي
هُوَ مَنزِلي وَلَهُ الجُموعُ تَصير
قولى لِرب اللَحد رفقا بِاِبنَتي
جاءَت عَروسا ساقَها التَقدير
وَتجلدي بِاِزاء لَحدى بُرهة
فَتَراكَ روح راعِها المَقدور
أَماه قَد سَلَفت لَنا أُمنِيَة
يا حُسنِها لَو ساقَها التَيسير
كانَت كَأَحلامٌ مَضَت وَتَخلفت
مُذ بانَ يَومُ البينِ وَهو عَسير
عودى اِلى رُبعِ خَلا وَمَآثِر
قَد خَلَفَت عَنّي لَها تَأثير
صونى جِهازَ العُرسِ تِذكارا قَلى
قَد كانَ مِنهُ اِلى الزَفافِ سُرور
جَرَت مَصائِبُ فَرَّقَتى لَكَ بعد ذا
لَبس السَواد وَنفذ المَسطور
وَالقَبرُ صارَ لِغُصن قَدى رَوضَة
ريحانُها عِند المزار زُهور
أَماهُ لا تَنسى بِحق بنوتى
قَبري لَئِلّا يَحزن المَقبور
وهنا عائشة ترد بكلام يقتل💔:
فأجبتُها والدَّمعُ يحبسُ منطقي
والدَّهرُ من بعدِ الجوارِ يجورُ
كذلك قولُها "يجور" لا يجوزُ.
بِنتاه يا كَبدي وَلَوعَة مُهجَتي
قَد زالَ صَفو شانِه التَكدير
لا نوصى ثَكلى قَد أَذابَ وَتينُها
حُزن عَلَيكَ وَحَسرَة وَزَفير
قَسما بِغض نَواظِر وَتَلهفى
مُذ غابَ نسان وَفارِق نور
وَبِقُبلَتي ثَغرا تَقضى نَحبه
فَحَرَمت طيب شَذاهُ وَهُوَ عَطير
وَاللَهُ لا أَسلو التِلاوَةِ وَالدَعا
ما غَرَّدَت فَوقَ الغُصونُ طُيور
كَلا وَلا أَنسى زَفير توجعي
وَالقَد مِنكَ لَدى الثَرى مَدثور
اِنى أَلفت الحُزنَ حَتّى إِنَّني
لَو غابَ عَنّي ساءَني التَأخير
قَد كُنتُ لا أَرضى التَباعُد بُرهَة
كَيفَ التَصَبُّر وَالبِعادُ دُهور
أَبكيكَ حَتّى نَلتَقي في جنة
بِرِياض خُلد زينَتُها الحور
اِن قيلَ عائِشَة أَقولُ لَقَد فَنى
عيشى وَصَبري وَالاِله خَبير
وَلَهى عَلى تَوحيدِهِ الحُسنِ الَّتي
قَد غابَ بَدر جَمالِها المَستور
قَلبي وَجِفني وَاللِسانُ وَخالِقي
راض وَباكَ شاكِر وَغَفور
مَتعت بِالرِضوان في خُلد الرِضا
ما اِزينت لَكَ غُرفَة وَقُصور
وَسَمِعتُ قَولَ الحَقِّ لِلقَومِ اِدخُلوا
دارَ السَلامِ فَسَعيُكُم مَشكور
هذا النَعيمُ بِهِ الاِحبَّة تَلتَقي
لا عَيشَ اِلّا عيشه المَبرور
وَلَكَ الهَناءُ فَصدق تاريخي بَدا
تَوحيدُهُ زَفت وَمَعَها الحور
لله دُرك والله، من أجمل ما قرأت